الصفحة الرئيسية  ثقافة

ثقافة الكاتب التونسي شوقي برنوصي يُعرب جزءا من سيرة الكاتب الفرنسيّ بوريس ڤيان

نشر في  03 جويلية 2018  (13:36)

بوريس ڤيان الغير مصنّف

Boris Vian

النصّ الأصلي الكاتبة سيسيل كايول/ تعريب(بتصرّف) شوقي برنوصي

من كتاب بعنوان "بوريس ﭬيان" تحت إشراف آن ماري نشر دار غاليمار بالتعاون مع المكتبة الوطنيّة الفرنسيّة

يبقى الكاتب الفرنسيّ بوريس ڤيان (1920-1959) غير مصنّف طالما كان منجزه دائم التغيّر ويرشح من معين لا ينضب. يقول جيلبير بيستورو المختصّ في أدبه أنّه « عَبَر وسط القرن العشرين مثل نيزك باهر».

منذ دخوله إلى عالم الأدب في سنّ الثالثة والعشرين، ضخّ ڤيان بوريده الإبداعيّ جميع المجالات، بقوّة وقدرة على الابتكار خارقتين للعادة. في أقلّ من عشرين عاما، كتب عشرات الروايات القصيرة والطويلة والمسرحيّات والمجموعات الشعريّة ونصوص الأوبرا وسيناريوهات الأفلام ومقالات لحوالي خمسين دوريّة وما يقارب خمسمائة أغنية؛ هذا دون اعتبار ترجمة عشرات الروايات الطويلة والقصيرة والنصوص المسرحيّة والمقالات...

 ڤيان المخترع المدهش والشخصيّة العامّة المتناقضة، جرّت معها –رغم أنفها- في نفس الوقت سمعة موسومة بالمراهقة الإباحيّة، وطالما عانى طيلة حياته من كونه لم يُعرف بسبب منجزه الأدبيّ. هل هذا بسبب «سمعة سيّئة» وفق عنوان أغنية جورج براسنز الشهيرة؟ أو حركة طليعيّة حيّرتْ جمهور ما بعد الحرب العالميّة الثانية؟ أو بسبب إنتاجه الدوّار والنخبويّة التّي تميّزه وتجعله بعيد المنال؟ إذ من المستحيل إذن أن نضع بوريس ڤيان ضمن بوتقة ما: إذا كان منجزه يمتاز بتنوّع لافت، فإنّ هذا الفنّان بحدّ ذاته رجل متناقضات، «رأس وسط السحب وأرجل داخل العلوم»

 في نفس الوقت، بوريس ڤيان مهندسٌ وشاعر وكاتب وعازف آلة البوق ومغنٍّ وصحفيٌّ ومترجمٌ.  كاتب مناهض للأعراف ومتذبذب؛ محترف وغريب الأطوار؛ خطير ومضحك؛ أسود وأبيض...ذلك الموسوس من الموت والمضغوط بالوقت إلى درجة حاجته القصوى لمعرفة كلّ شيء وقول كلّ شيء في آن.

الشباب الأبديّ، التكوين الفكري وإعادة اختراع العالم:

وُضعتْ طفولة ومراهقة بوريس ڤيان فيما يشبه شرنقة عائليّة، إذ اقترنت الألعاب مع التعلّم لصنع تربية مثاليّة.  تحرّر التكوين الفكريّ للشاب من الضغوطات وصار معزولا عن العالم. يبدو أنّ الفضاء كان ملائما للإبداع مع ارتباط المتعة والدراسة فيه. كان أبوه بول يدير ثروة عائليّة (ثمّ أضطرّ للبحث عن عمل بعد أزمة سنة 1929،بعدت أن نضبت الثروة)؛ أحبّت أمّه إيڤون الموسيقى، ومن هنا يأتي اختيار اسم بوريس تيمّنا بأوبيرا موسورغسكي لبوريس غودونوف.

وسط هذا المنزل المترف في مدينة أوڤراي، تمّ تخصيص مجمل أوقات الترفيه للموسيقى والتسليات الأدبيّة: مثل القصائد المقفّاة والتمارين الشعريّة والأحجيات والألعاب اللّغويّة، التّي أصبح كاتبنا مختصّا فيها. كانت القراءة انتقائيّة، لكن الأدباء الأنغلوساكسونيّين شغلوا حيّزا كبيرا. في هذا العالم المغلق نوعا ما، الذّي لم يكن متناسقا مع حركة العالم في ذلك الوقت؛ إذ لم يكن للدين أو السياسة الحقّ في أن يذكرا في فترة ما بين الحربين المضطربة تلك، وربّما حصد منها أفراد العائلة بعضا من الكره للنظم والمثل العسكريّة. سوف يشجب بوريس ڤيان -فيما بعد في مذكّراته- إبعاده عن الواقع وعدم اطّلاعه على هول الحرب. 

شحذت هذه الطفولة الرعويّة -شيئا ما- الكاتب إلى حدّ بعيد، ومثّلت المحرّك الدائم لإبداعه.  فيما بعد سيتمكّن من تجربة التخلّص من سطوة «الأمّ الجيب» كنية لُقّبتْ بها إيڤون ﭬيان من قبل أطفالها، وذلك في انتقاد منهم لقفص طفولتهم الذهبيّ، ويظهر ذلك خصوصا في روايتي بوريس«العشب الأحمر» و«مقلاع القلب». جاهد الكاتب في إرادة منه حتّى يتمّ أخذه مأخذ الجدّ. سيحتفظ بوريس ڤيان دائما بصورة المراهقة الأبديّة، وذلك عبر نضارة اختراعات جدّدها دون توقّف. حتّى أنّ فكرة الموت التّي لازمته أثّرت فيه مثل محفّز، ودفعته إلى الجري وراء الزمن.

عاود ڤيان في الواقع اختراع العالم والفعل واللّغة والموسيقى، وذلك في كافّة المجالات التّي مارس فيها هواياته. وكلّ مرّة بأكثر حيويّة، وكأنّ نضوجه لم يمتلك مسبب إلهامه. في انزياح عن الحقيقة، أخذ ڤيان بجديّة أشياء تبدو غير موجودة مثل الأطفال، ولم يتورّط  الكاتب على العكس في عالم ماديّ  متحوّل وفق خياله الجامح. رسخ لديه بالتالي اعتقاد بأنّه شخص مبهم: «أمرٌ غريبٌ، عندما أكتبُ نكاتا يغلب عليها الصدق، وعندما أكتب شيئا حقيقيّا يعتقدون أنّني أمزح»، من مراسلة لزوجته أورسولا سنة 1951. بالتالي، لم يخرج جسده وقلبه سالمين من هذا العناء الشديد المساهم في موته المبكّر، ويعكس منجزه المتلوّن والمتعدّد صورة شباب أبديّ. أصابت أجيال من الشبان الحقيقة عندما لوّحت بروايته «زبد الأيّام» هاتفين كونها مثّلت بيانا للحداثة.

اللّغة-العالم: طاقات اللّغة عند ڤيان

مثّلت اللّغة عند بوريس ڤيان منذ أعماله الأولى محرّك اختراع جبّار؛ السبب في ذلك أنّه تكوّن في مدرسة جيّدة! في الحقيقة، كان آل ڤيان مخلصين كبار للّعب بالكلمات... تأخذ اللّغة بالتالي، وبسرعة، مكانة أساسيّة، حتّى تصبح عالما ملكه  لوحده.

تعاقبت على بوريس ڤيان عدّة صفات؛ فتارة مُرجعٌ، وأخرى مجدّد أو محوّل أو مخترعٌ. إذ تواثب ﭬيان في الواقع على كلّ أوجه اللّغة، يصقلها ويعاود ابتكارها في نفس الوقت حتّى يعطيها قوّتها الأصليّة. إذا كان يسعد باستحداث ألفاظ جديدة، فهو يُعاودُ تمكين الكلمات العتيقة الطراز، التّي تمّ تجاوزها، أو تلك التّي فقدتْ معانيها.

قبل أن يستعمل الكلمة، كان يبحث عن فهمها على سجيّتها. ويوشك أن يتّبع المعنى الصحيح لبعض العبارات، مثل «تضرب المس بقوّة على بلاطات الميناء التّي تغور شيئا فشيئا»؛ في إحدى قصصه القصيرة المُعنونة «جراد البحر»، ذهب إلى حدّ بناء حبكته انطلاقا من واحدة من أحد هذه العبارات: كانت قصّة موسيقيّ أصرّ على الانقطاع عن الموسيقى بسبب مشاكل صحيّة(مثل حالة الكاتب)، ووجد نفسه مجبرا على بيع عرقه إلى خبّاز! سيحيلنا ذلك طبعا للتفكير في العبارة اللّفظيّة التالية «يكسب خبز يومه من عرق جبينه»...

بين تلك التّي يخترعها وتلك التّي يحوّلها أو يقلّصها أو يمطّطها، وتلك التّي يسحبها من المصطلحات التقنيّة الهندسيّة أو المهملة، تبدو الكلمات التّي يستعملها ڤيان عصيّة على تحديدها، إذا لم نقل أنّها دخلتْ فعلا إلى الكون "الﭬياني". عالمٌ ينصّبُ فيه ڤيان مهامّا ل"أعوان السلاح" " وللمهتمّين بكلّ الأشياء القديمة" عالم يمكن أن تدفع ثمن "البيانوكوكتال"[1] ب"الدوبلوزون"[2] أو أن تتعطّر ب"روح الأوركيد مزدوج التقطير" أو تموت بسبب نبوت زنبقة الماء الأبيض في الرئة...

يُعدُّ تحويل اللّغة أحد المفاتيح الإبداع الروائيّ لدى ﭬيان؛ إنّه خيميائيٌّ حقيقيّ للفعل، يتحكّم باللّغة ويجعلها خاصّة به، بانيا كونه الموازي مستعملا أدوات وحجارة أساسيّة مكوّنة من الكلمات المحرّفة والمثراة والمهدّمة والمعاد بناءها. استثمر ڤيان قوّة جديدة، تملك فيها الكلمات موهبة قيادة مشاعر وسلوكيات الشخصيّات وافتعال تقاطعات بين عوالم بشريّة أو نباتيّة أو عضويّة؛ تصبح بالتالي اللّغة فاعلا، مادّة حيّة ومتحرّكة في نفس الوقت، وتمتلك القدرة على تحريك كلّ شيء مثل الديكور والأشياء والشخصيات. في هذا العالم، ينادمُ الواقعيُّ العجائبيَّ وتصير فيه مقاعد لويس الخامس عشر عندما تبلى إلى لويس السادس عشر. وتحيا فيه البلاطات عندما تنمو مثل النباتات و"ترتجف عندما يلامسها الهواء" متحدّثا عن الآلة الكاتبة...

العالم وفق ڤيان خليط بين الخيال الجامح والخيال العلمي، الدعابة السوداء والشّعر، اللاّمعقول والسوداويّة، ولا يشبه أيّ شيء معروف. خلق الكاتب عالما يروي ويقترح أكثر من الحكاية نفسها، عالم مواز يشبه بشكل غريب عالمنا لكنّه محكوم برموز واستعمالات مختلفة؛ عالم تملك فيه اللّغة والموسيقى القدرة على تغيير الأمور، أين تتكلّم فيه الحيوانات وأين تصبح الأشياء مواد حيّة...

 أكثر من صانع حكايات، بوريس ڤيان هو حقّا «مبدع عوالم» ، العوالم الموازية يتقاطع الفظيع فيها بالعجائبيّ، تعاني فيها الشخصيّات لإيجاد موطئ قدم لها ويصير الفضاء الذّي تتطوّر فيه غير ملائم، أصغر أو أكبر: تضيق الغرفة التّي احتضر فيها كلوي ببطء مثلما تكبر في رئته زنبقة الماء الأبيض التّي تقتله(رواية زبد الأيّام)؛ المنزل الذّي تكبر فيه الشخصيّات الثلاث جوال ونوال وسيتروان في رواية "مقلاع القلب" يبدو دائما كبيرا جدّا في عين أمّهم التّي خلصت إلى حبسهما في قفص. في مسرحيّة «بنّاؤو الامبراطوريّة» التّي كتبها ﭬيان سنة 1957، تجد عائلة نفسها محجمة عن شغل مساكن تصغر شيئا فشيئا بسبب ملاحقة ضجيج مرعب لها. هل هو تذكّر الخسارة التدريجيّة للمرجعيّات الأسريّة، التّي دمّرها موت الأب؟ موضوع تقلّص الفضاء، أو حتّى «تدميره»، يعيد على يكرّر تمدّد الزمن الذّي يتمطّط أو يتسارع وفق الأحداث؛ في رواية زبد الأيّام يشيخ نيكولا الطبّاخ كلّما مرض كلووي، من سبعة أعوام إلى ثمانية أيّام تحديدا... في نهاية الرواية عامل يبلغ تسعة وعشرين عاما أنهكه استعمال حرارة جسده لصناعة المدافع، وأخذ ملامح عجوز بعد سنتين.

تتصاعد من هذه العوالم -على العكس- ألفة غريبة وتظهر كوميديّة وتراجيديّة ومقلقة في نفس الوقت.

بوريس ڤيان ونسخه المطابقة للأصل :

التساؤلات التّي أثارها لقب بوريس ڤيان منذ ولادته حول أصوله حوّمت مثل لغز. عبر اختلاق شخصيّة ڤرنون سوليڤان، كاتب أمريكيٌّ خلاسيٌّ اكتشفه وترجمه، شخصيّة انتحل اسمها واختبأ وراءها لكتابة رواية «في الطريق لأبصق على قبوركم» أين يلعب بوريس ڤيان ورقة الالتباس الغموض. هذا الثنائي الناشئ من خدعة موجّهة للقفز بمبيعات الرواية سوف يلاحق بوريس ڤيان طيلة حياته. في البدء هذا التحايل هو لعبة عنف وجنس وعنصريّة، رهان مجنون لكتابة محاكاة ساخرة لرواية سوداء أمريكيّة تحت هذا الاسم المستعار في خمسة عشر يوما واضعا فيها كلّ المكوّنات التّي تصنع نجاح "سلسة سوداء" أمريكيّة. نجحت هذه المحاكاة إلى درجة أنّ الكتاب حطّم كلّ الأرقام القياسيّة للمبيعات-ما مكّن بوريس أخيرا من العيش من مرابيح كتابته- لكن هذا العمل صنع فضيحة على غرار روايات هنري ميللر، وتمّ تتبّع ڤيان قضائيّا بحجّة الإساءة إلى الأخلاق الحميدة!

صار ڤرنون سوليڤان إذن نسخة مربكة، خصوصا لو تنبّأنا أنّ الكاتب والمترجم لم يكونا إلاّ واحدا، ولم يتأخّر بوريس على تأكيد ذلك؛ من هنا فصاعدا، السمعة المقيتة لواحد تلوّث درب الآخر: سوف ترفض دار غاليمار للنشر بمنهجية كلّ الروايات التّي تلت، سواء كانت موقّعة من طرف بوريس ڤيان أو ڤرنون سوليڤان. لكن وبعد اكتشاف هذا التحايل، يصرّ بوريس ويوقّع أيضا ثلاث روايات باسم ڤرنون سوليڤان؛ هل يأمل ايجاد نجاح الرواية الأولى؟ أو لا يزال لڤرنون سوليڤان أشياء أخرى ليقولها؟

نشرت روايات ڤيان بالتداول واحدة باسمه الحقيقيّ وأخرى باسم سوليڤان؛ كلّما ازدادت روايات ڤيان قتامة ربحت مؤلّفات سوليڤان بعض الخفّة. نلاحظ أنّ روايات سوليڤان كتبت كلّها بضمير المتكلّم، أمّا الموقّعة باسم ڤيان فكانت بضمير الغائب.

رواية «العشبة الحمراء» لڤيان يصنع وولف بطلها لنفسه نوعا من التحليل النفسيّ الذاتي بفضل آلة ل"بلع" الذكريات. تنتهي بطلة رواية سوليڤان «مقلاع القلب» كليمنتين الأمّ المحبّة بإفراط إلى وضع أولادها الثلاثة في قفص خوفا من أن يُجرحوا أويهربو، ما يحيلنا إلى شخصيّة أمّه الشديدة التملّك. آنجل الزوج في نفس الرواية الذّي تجاوزته الأحداث وهجر زوجته كليمنتين وأولاده لأنّه فشل في إيجاد مكان له داخل العائلة، يمكن أن يكون أحد نسخه مثل كولن شخصيّة أخرى رواية «زبد الأيّام» الذّي يعشق علاقات الحبّ والفتيات والجاز، هذا علاوة على شخصيّات كثيرة خلقها.   

الكتابة بأسماء مستعارة أمر مهمّ؛ مكّن استخدام سوليڤان بوريس من استعمال ريشته بأساليب أخرى واظهار عدد من المواضيع المفضّلة لديه، مثل ولعه بالولايات المتّحدة الأمريكيّة أو مسألة العنصريّة؛ مكّنه أيضا من مجابهة مواضيع محظورة قديمة عبر مشاهد عنف وجنس.

مثّل موضوع النسخ المطابقة للأصل صدى للشخصيّة المتناقضة لبوريس ڤيان، والذّي بدت أعماله تراوح بين متناقضات: الأسود/الأبيض، الرقّة/العنف، المهمّ/المهمل، الحياة/الموت... تعود وفرة الأسماء المستعارة،قرابة 6، إلى كلّ هذه المتناقضات. بوريس ڤيان أو المعروف أيضا ب: بيزون راڤي، بارون ڤيزي، ليديو سانكريزي، أوديل لوغريون، بوريس جيونو، الدكتور جيديون مول أو أيضا زيفرين هانغالو...كاتب لعب كثيرا الغميضة مع قرّاءه.

كوكب الجاز والأدب:

تمثّل موسيقى الجاز عنصرا أساسيّ في حياة بوريس ڤيان؛ تحفّز الموسيقى روحه الابداعيّة، بنفس مستوى الكتابة، ويعتبره بمثابة «تحرّر ابداعيّ». غمره جوّ موسيقي طوال طفولته (عزفت أمّه إيڤون على البيانو والقيثار). كما في الأدب، خطّ تجاربه الأولى وسط العائلة، واكتشف مع مراهقته الجاز وآلة البوق وجمع تشكيلته الصغيرة الأولى مع أصدقائه وإخوته، ليليو على القيثارة وآلان على آلة الباتري.

حظيت هذه الأوركسترات الهاوية، وخاصّة التّي أدارها صديقه كلود أبادي، بشيء من الصيت وأثّثت بعد الحرب العالميّة الثانية حفلات داخل أقبية، وكانت مهمّة ڤيان دور منظّم لها وسيلقّب فعلا ب«أمير سان جرمان دوبري»! أجبرته مشاكل قلبه الصحيّة سنة 1951 على التخلّي عن آلة البوق، لكنّه لم ينقطع على الأقلّ عن الاهتمام بالجاز، وذلك بصفة معلّق على المواهب؛ كان عضوا منذ السابعة عشرة من عمره في هوت كلوب فرنسا التابع ل«جمعيّة محبّي الجاز الأصيل»، كما كتب طيلة حياته في مختلف الدوريّات مئات المقالات المؤثّرة. شرّكته سنة 1955 Philips في إصدار مجموعة «جاز للجميع»، طريقة تمكّن من خلالها من بثّ شغفه نحو أكثر عدد من الناس.

تأثّر المنجز الأدبيّ لبوريس ﭬيان بالجاز؛ بدت رواياته في أغلبها مبنيّة وفق مؤلّفات لموسيقى الجاز، وتطوّرت حولها أصداء تفرّعات عدّة. تعدّدت مرجعيّات موسيقى الجاز خاصّة عبر أذواق الشخصيّات والمحادثات بينها والمعيش اليوميّ لها.  في رواية «زبد الأيّام» يحبّ كولين وكلوي بعضيهما ويعيشان قصّة حبّ لطيفة يهزّها صوت تموّجات موسيقى ديوك النغتون الزرقاء.

الموسيقى مثل الكلمات تملك القدرة على تغيير الفضاء؛ تحت تأثير مقطع موسيقيّ لجوني هودجز أسمعها كولن لحبيبته كلووي التّي أصدرت "شيئا غير قابل للتفسير وحسيّا حدّ الكمال"، تتغيّر زوايا الغرفة وتصير دائريّة إلى أن تصير كرة.  هذه الغرفة الجديدة وجدها الدكتور محزنة واقترح مقطع جاز آخر، Slap Happy، حتّى يرجع لها شكلها العاديّ. الجاز حاضر أيضا في رواياته من خلال أسماء الشخصيّات، أسماء الشوارع أو الشركات. 

يمثّل الجاز والموسيقى أحد الجوانب المضيئة لحياة بوريس ﭬيان، وأحد "أكثر أكبر فترات وجوده"، ويصنّف في رأس قائمة حفلات الفنانين المحبوبين لديه-ديوك إلنغتون وديزي جيلبسي- الذين قدر أن يشهدها. الأغنية شكل قصير يلائمه، يمكنه عبرها منح مسار لخياله وإبداعه. كتب قرابة خمسمائة أغنية وذاع صيت عشرة منها.



[1] آلة تشبه البيانو من اختراع ﭬيان تتحكّم مفاتيحه بقوارير عصير، كلّ معزوفة تعطي نوعا متفرّدا من العصير خاصّ بكلّ معزوفة

[2] عملة نقديّة من اختراع خيال ﭬيان